الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
يقول الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [سورة إبراهيم: 27]، قال البراء بن عازب رضي الله عنه: "نزلت في عذاب القبر".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون فيمن أنزلت هذه الآية: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [سورة طه: 124]؟ أتدرون مالضنك؟»، قالوا: "الله ورسوله أعلم". قال: «عذاب الكافر في قبره، والذي نفسي بيده إنه ليسلط عليه تسعة وتسعون تنيناً. أتدرون ما التنين؟ تسع وتسعون حية، لكل حية سبعة رؤوس، يلسعونه ويخدشونه إلى يوم القيامة» [حسنه الألباني].
لذلك كان عثمان بن عفان رضي الله عنه، إذا ذكر الجنة والنار لا يبكي، وإذا ذكر القبر يبكي حتى تخضل لحيته، قالوا له: "مالك تذكر الجنة والنار ولا تبكي، وتذكر القبر فتبكي؟!"، قال: "القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه"، وقال صلى الله عليه وسلم : " لولا أن تدافنوا لدعوت الله تعالى أن يسمعكم عذاب القبر. "
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من عذاب القبر.
فهل تذكرت القبر وضمته، وهل تذكرت القبر وظلمته، وسؤال الملكين فيه، وسؤال منكر ونكير؟!
قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- لبعض جلسائه: "... يا فلان، لقد أرقت الليلة أتفكر في القبر وساكنه، إنك لو رأيت الميت بعد ثلاثة في قبره لاستوحشت من قربه بعد طول الأنس منك به، ولرايت بيتاص تجول فيه الهوام، ويجري فيه الصديد، وتخترقه الديدان مع تغير الريح وبلي الأكفان، بعد حسن الهيئة، وطيب الروح، ونقاء الثوب".
ولما رجع علي -رضي الله عنه- من صفين و أشرف على القبور قال: "يا أهل الديار الموحشة والمحال المقفره، والقبور المظلمة، يا أهل التربة، يا أهل الغربة، يا أهل الوحشة، أنتم لنا فرط سابق، ونحن لكم تابع لاحق. أما الدور فقد سكنت، وأما الأزواج فقد نكحت، وأما الأموال فقد قسمت، هذا خبرها عندنا، فما خبر ما عندكم؟"، ثم التفت إلى أصحابه فقال: "أما لو إذن لهم في الكلام لأخبروكم أن خير الزاد التقوى".
وروى ابن أبي الدنيا بإصناده عن امرأة هشام الدستوائي، قالت: كان هشام إذا طفئ المصباح غشيه من ذلك أمر عظيم، فقلت له: "إنه يغشام أمر عظيم عند المصباح إذا طفئ"، قال: "إني أذكر ظلمة القبر".
وعن خالد بن خداش قال: كنت أقعد إلى أشيم البلخي وكان أعمى، وكان يحدث: "أواه القبر وظلمته، واللحد وضيقه، وكيف أصنع؟!"، ثم يغشى عليه، ثم يعود فيحدث، فيصنع مثل ذلك مرات حتى يقوم.
قال الأعمش: " كنا نشهد الجنائز فلا ندري من نعزي لحزن الجميع".
وعن الفضيل بن عياض -رحمه الله- قال: رأيت رجلاً يبكي قلت: "وما يبكيك؟"، قال: "أبكاني كلامه"، قلت: "ما هو؟"، قال كنا وقوفاً في المقابر فأنشدوا:
أتيت القبور فساءلتــــــــها *** أين المعظم والمحتـــــــقر
وأين المذل بســــــــــطانه *** وأين القوي على مـــــاقدَّر
تفانوا جميعاً فـــــــما مخبر *** وماتوا جميعاً ومات الخبر
فيا سائلي عن أناس مضوا *** أمالك فيما مضى معــــتبر
تروح وتغدو بذالك الــثرى *** فتمحى محاسن تلك الصور
وحكي عن هارون الرشيد أنه انتقى أكفانه بيده عند الموت وكان ينظرإليها ويقول: {مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ۜ ﴿28﴾ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [سورة الحاقه: 28-29].
ولموا احتضر المأمون فرش رماداً واضطجع عليه وكان يقول: "يا من لا يزول ملكه، ارحم من قد زال ملكه".
فهل تذكرت هذه الأحوال، وهل اعتبرت بهذه الأهوال، قل لي بالله عليك ماهو حال تارك الصلاة في القبر؟!، الربا في القبر؟!، بل قل لي بالله عليك ما هو حال من ضيع محارم الله في القبر؟!، قل لي بالله عليك ما هو حال من سمع الغناء واللهو في القبر؟!، بل ما هو حال المتبرجات في القبر؟!، وما حال العاصيات المقصرات صاحبات الموضة في القبر؟!
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بـــعثنا وبعدها نسأل عن كل شيء
واسمع يا أخي الحبيب إلى حال هؤلاء في القبر، واسمع يا مسكين حال المؤمنين وحال العاصين في القبر وعند الاحتضار، إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
عن البراء بن عازب قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يُلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله، كأنما على رؤوسنا الطير، وفي يده عُودٌ ينكت به، فرفع رأسه فقال: «استعيذوا بالله من عذاب القبر – ثلاث مرات – ثم قال: «إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخره، نزل إليه من السماء ملائكة بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، حتى يجلسوا منه مد البصر، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، ثم يجيء ملك الموت فيجلس عند راسه، فيقول: "أيتها النفس المطمئنة، أخرجي إلى مغفرة من الله وروضان" فتخرج تسيل كما تسيل القطره من السقاء، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعها في يده طرفة عين، حتى يأخذها فيجعلها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، فتخرج منه كأطيب نفحة مسلك وجدت على وجه الأرض، قال: "فيصعدون بها، فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: "ما هذا الروح الطيب؟"، فيقولون: "فلان بن فلان"، بأحسن أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح، فيفتح له من في السماء فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: "اكتبوا كتاب عبدي في علّيين، أعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى". قال: فتعاد روحه إلى جسده، فيأتيه ملكان، فيجلسانه، فيقولان له: "من ربك؟"، فيقول: "ربي الله"، فيقولان له: "م ادينك؟"، فيقول: "ديني الإسلام"، فيقولان له: "ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟"، فيقول: "هو رسول الله"، فيقولان له: "ما علمك؟"، فيقول: "قرأت كتاب الله، وآمنت به، وصدقت به"، فينادى مناد من السماء أن صدق عبدي، فأفرشوة من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من طيبها وروحها، ويفسح له في قبره مدّ بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب ، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: "من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير؟"، فيقول: "أنا عملك الصالح"، فيقول: "رب، أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي»...
واسمع يامسكين الى حال العصاة والكفار والمجرمين، لعل قلبك يلين، وتوبتك تحين، واسمع يامسكين إلى حالهم، وانظر الى مقالهم، وتأمل ماذا يفعل الله بهم: «وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، يجلسون منه مدّ البصر. قال: "ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتغرق في جسده. قال: فيخرجها تتقطع معها العروق والعصب كما ينزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعها في يده طرفة عين حتى يأخذها في تلك المسوح، فيخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدَت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: "ما هذا الروح الخبيث؟"، فيقولون: "فلان بن فلان". بأقبح اسمائه التي كان يُسمى بها في الدنيا حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون، فلا يفتح لهم ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [سورة الاعراف: 40]، قال: فيقول الله عز وجل اكتبوا كتاب عبدي في السجين، في الأرض السفلى، وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى. قال: فتطرح روحه طرحاً، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [سورة الحج: 31]، فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان، فيجلسانه، فيقولان له: "من ربك؟"، فيقول: "ها، ها، لا أدري"، ويقولان له: "ما دينك؟"، فيقول: "ها، ها، لا أدري". قال فينادي مناد من السماء: أفرشوا له من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، قال: ويضيق عليه قبره، حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوءك، هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول: "من أنت؟"، فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث. فقول ربِّ لا تقم الساعه» [صححه الألباني].
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال في قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [سورة إبراهيم: 27]، قال: "التثبيت في الحياة الدنيا إذا جاءه ملكان في القبر، فقالا له: "من ربك؟"، فيقول: "ربي الله"، قالا له: "فما دينك؟"، فيقول: "ديني الإسلام"، قالا له: "فمن نبيك؟"، فيقول: "نبيي محمد صلى الله عليه وسلم"، فهذا التثبيث في الحياه الدنيا".
وقال صلى الله عليه وسلم: «يتبع الميت ثلاث: ماله وأهله وعمله، فيرجع اثنيان ويبقى واحد يرجع أهله وماله ويبقى عمله» [رواه البخاري].
لذلك يا أخي عليك أن تزور القبور، وتكثر من زيارتها، فكلما غفل قلبك واندمجت نفسك في الحياة الدنيا، فاخرج إلى القبور وتفكر في هؤلاء القوم الذين كانوا بالأمس مثلك على الأرض يأكلون ويشربون ويتمتعون، والآن أين ذهبوا؟... صاروا مرتهنين بأعمالهم لم ينفعهم إلا ماقدموا.
يا من يحدث نفـــــــــسه بدخول جنات النعــــــــــيم
إن كنت متقيا فأنــــــت على الصراط المســـــتقيم
لا ترجون سلامـــــــــة من غير ما قلب ســـــــليم
واذكر وقوفك خـــــائفاً والناس في أمر عــــــظيم
إما إلى ذل الشــــــقاوة أو إلى العز المقيــــــــــــم
فاجعل تقاك وقايــــــة في الحشر من نار السموم
واغتنم حياتك واجـتهد وأنت إلى الرب الرحيــــم
فالواجب على كل مسلم أن يستعيذ بالله تعالى من عذاب القبر، وأن يستعد للقبر بالأعمال الصالحة قبل أن يدخل فيه، فإنه قد سَهُل الأمر مادام في الدنيا، فإذا دخل القبر فإنه يتمنى أن يؤذن له بحسنة واحده، فلا يؤذن له، فيبقى في حسرة وندامة.
عن يزيد بن حوشب قال: "ما رأيت أكثر خوفاً من الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز وكأن النار لم تخلق إلا لهما".
وكان عمر بن عبد العزيز إذا ذكر الموت اضطربت حاله، وروي أنه قرأ يوماً قوله تعالى:
{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [سورة يونس: 61]، فبكى بكاءً شديداً حتى سمعه أهل الدار، فجاءت فاطمة زوجته، فجلست تبكي لبكائه وبكى أهل الدار لبكائهما ، فجاء ولده عبد الملك فدخل عليهم وهم يبكون، فقال: "يا أبت ما يبكيك؟"، فقال: "يا بنيَّ، ودَّ أبوك لو لم يعرف الدنيا ولم تعرفه، والله يا بنيَّ خشيت أن اكون من أهل النار".
فيا مستأنسناً بالمنازل والدور، وكاسات الموت عليه تدور يا مظلم القلب و للقلب نور، والباطن خراب والظاهر معمور، لو ذكرت الأجداث والقبور، لأبطلت عمارة الدنيا أيها المغرور، ستحاسب على الأيام والشهور.
أخي الحبيب: أفق من سكرتك أيها الغافل، وتحقق أنك عن قريب راحل، فإنما هي أيام قلائل، فخذ نصيبك من ظل زائل، واقض ما أنت قاض وافعل ما أنت فاعل. فإنك لهذه الدنيا مفارق: {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ﴿205﴾ ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ ﴿206﴾ مَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [سورة الشعراء: 205-207]، أعاذنا الله وإياكم من عذاب القبر.
هذا وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.